السبت، 23 سبتمبر 2017

الهجرة النبوية : دروس وعبر




لماذا بدأ التأريخ الإسلامي من الهجرة ؟
مع أنها لم تكن رحلة للسياحة أوزهدا في الوطن أو للإستجمام والراحة ! بل كانت رحلة محفوفة بالمخاطر ، ومكابدة المشاق والتضحية وغصة تخنق الروح لفراق بقعة أحبوها وتعلقوا بها ، الهجرة كانت تعني التخلي عن الوطن وعن الجاه والمكانة والمنصب والمال والدور ..

في الحديث الصحيح أن عبدالله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه قال: رأيتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، وَهوَ على ناقتِهِ، واقفٌ بالحَزوَرَةِ يقولُ: واللَّهِ إنَّكِ، لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إليَّ، واللَّهِ لولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ، ما خَرجتُ" 

هذه العبارات الندية وهذا الينبوع المتدفق من المشاعر الجياشة تعكس لوعة وحنينا وحبا لوطن ترعرع فيه وتعلق قلبه به ، إلا أن قريش ضيقت عليهم الخناق وحالت دون انتشار الدعوة ، وآذتهم وألبت عليهم القبائل وحرضت عليهم زوار مكة من العرب حتى لا يُصغوا لكلام الله وحتى لا تلقى الدعوة استجابة أو حضنا لها ، البيئة في مكة لم توفر التربة الخصبة لنمو بذرة الدعوة ..

إلا أن المدينة كانت المحضن الحقيقي للدعوة وتجذرها وانطلاقتها لرحاب أوسع ، وجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام السند والحماية والمؤازرة والدعم ، فيها شع نور الإسلام وبدد ظلام الجاهلية ، بلغ شعاعه مدى أوسع ، فيها وجدت الدعوة البيئة الصالحة لتقويتها واسنادها حتى اشتد عودها ، وانطلقت تحرر البشرية من اغلال الجاهلية ، وتنقذها من التيه إلى طريق الهداية والرشاد وحتى تبلغها مرفأ الأمان والطمأنينة وسعادة الروح والتي لن تجدها إلا في رحاب الإسلام وتعاليمه السمحة..

في المدينة اجتمعت قلوب صافية طاهرة : بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر اليمني والعربي القرشي المسلم ، فيها وجدوا الحفاوة والإكرام والإحتضان وحسن المعاملة ، والتعاضد والألفة والمحبة والإخاء ، أول ماقام به سيد الخلق عندما طاب له المقام في المدينة بنى المسجد ، الذي كان يؤدي رسالته على أكمل وجه ، وبعدها آخى بين الأنصار والمهاجرين ، بين من ضحى بالغالي والنفيس ليحمي الدعوة ومن نصرها ووفر لها الاجواء لتنمو وتترعرع ..

في المدينة تم بناء المجتمع الجديد على أسس متينة ، جسد معنى الجسد الواحد في أرقى صوره ، كانت أصرة العقيدة أوثق من أصرة القرابة ، أُزيلت الفوارق الطبقية التي طالما شحنت النفوس بغضاء وحنقا وحقدا وعداوة وغلا ، هوت جدران الكراهية وحل محلها المحبة : الكل إخوة ، شكلت المدينة للدعوة الحصن المنيع ، الذي حرس الدعوة وتعهدها واستمات في الدفاع عنها وفداها بالأرواح ، ضرب الصحابة الكرام أروع الأمثلة في الصبر والتفاني والإخلاص والوفاء والتضحية والإخاء ، كانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا .. 

ذابت كل حزازات الجاهلية وكل العصبيات التي نخرتهم وبددت جهدهم ، شكلوا قوة لها وزن وثقل ، رسخوا لوحدة ابهرت العالم وكانت لهم قيمة وقدر بين الأمم وحققوا الإنتصارات تلو الإنتصارات وكانت لهم المنعة والعزة والسؤدد ..
 وما إن يطفو كل ما دفنه الإسلام من وحْل الجاهلية إلا وحلّت الفرقة والتشرذم مكان الوحدة وعصفت بالمكانة والهيبة ، وحل التفكك مكان التماسك ، وضعُفت الأمة وانهكتها صراعاتها وتغول عدوها عليها ، ما أحوج الأمة اليوم أن تقرأ بتمعن معاني الهجرة النبوية وتقف عند دلالاتها وتستقي منها الدروس والعبر وتقارن حالها المزري الذي لا يسر الصديق وحالها يوم أن كانت أمة موحدة وجسد واحد حيث بلغ عزها مشارق الأرض ومغاربها ودانت لها الامم..