بدأت فصول الحكاية عند اقتراب موعد ولادة السيدة عبير ولأنها مغتربة وبعيدة عن العائلة ، اقترح عليها زوجها السفر لغزة حيث تقطن العائلة ، هناك ستجد من يرعاها ويعتني بها ويهتم لها حتى تسترد عافيتها وتعود إليه هي والوافد الجديد ، لم يكن في حسبان الزوجين المصير المجهول الذي كان ينتظرهما ولا القهر الذي سيتعرضان له ، سافرت عبير وتركت خلفها بيتها الهادئ ومملكتها الغناء وعشها الزوجي وزوجها المشتاق وسافرت على أمل أن تنجب وليدتها وتعود لبيتها ..
انجبت عبير طفلتها والتي سمتها حنين وقررت العودة لزوجها الذي كان يتلهف شوقا لاحتضان فلذة كبده والذي لم يراها إلا في الصور التي ترسلها له زوجته ، اقتنى الأب كل اللوازم التي ستحتاجها صغيرته من سرير النوم والألعاب والملابس وو..، وأخيرا سترفرف السعادة بجوانحها في مملكته وسيغمر البيت فرحة وبهجة وستملأ حنين البيت بإبتسامتها البريئة وشقاوة الصغار المحببة للقلوب فتعبهم راحة ، وتضفي بلمساتها اللطيفة جو الفرحة على عش الزوجية وتزين العش بمقدمها وتزيد من تمتين العلاقة بينهما وتعزز رباطهما ..
إلا أن كل الأحلام التي نسجها الزوج تكسرت أمام البوابة السوداء وتبعثرت وانقلبت حياته رأسا على عقب !! لم يكن في الحسبان أن البوابة ستغلق وستغلق معها كل الأحلام وستقتل معها البسمة ، اغتالت البوابة السوداء الفرحة في قلوبهما ، ودفنت معها الأحلام وأوصدت دونها الأبواب ، وكلما تقرر فتح البوابة إلا وداعب عبير بصيص أمل ، في اجتياز المعبر وملاقاة زوجها ، إلا أن المعاناة طالت ومر اليوم واليومين والشهر والشهرين والعام والعامين ، حتى غدا عمر حنين أربع سنوات ، وزوج عبير في الغربة هناك يتلوى من وجع البعد وقد أرقه الفراق ، وعبير معلقة لا هي متزوجة ولا هي مطلقة ، تحولت حياة الزوج لجحيم لا يطاق ، وعبير غدت الأم والأب في غياب حنان الأب ، تحاول جاهدة أن تعوض حنين حب الوالد وحنانه وحضنه الدافء..
انعدم الإستقرار في حياتها فقد غدت مهدده ، بهتت كل مباهج الحياة أمامها ، تتنقل بين بيت أمها لبيت حماتها ، غدا الإنفصال شبح يقض مضجعها وتؤرقها الهواجس، فهي لا تدري متى تفتح هذه البوابة اللعينة ، التي شتت شمل العوائل ومزقت أوصالها وعصفت بأمنها واستقرارها ، وكأن صلف الإحتلال لا يكفي !! ليعمق ذوي القربى من أوجاعها وألامها وتفرقها عن زوجها ، إن كانت جروح الجسد بادية للعيان وتجد عادة التعاطف والتضامن وقد تشفى مع مرور الزمن ، فجروح النفس تبقى غائرة ، لا يحس بها إلا من تعرض لهكذا موقف أو كابد ما كابدته عبير من مشاق الفراق واوجاع البعد و حرقة الشوق والحنين لبيتها وزوجها ..
احتجاز قسري وتدمير للنسيج الأسري وواقع أليم تتجرع الأسرة مرارته ، كل "الحلول" موجعة ، وأصعبها الإنفصال المفروض ، اسودت الحياة أمام ناظري عبير وقلب أمها يكاد ينفطر من الحزن على حالها ، وهي ترى ابنتها أمامها كزرهة تذبل ووجهها شاحب وقد غابت الإبتسامة عن محياها وتحجرت الدموع في مقلتيها ، هو حال القلب عندما يبكي ، أما طفلتها حنين لم تعد تستشعر الأمن والأمان ، فقد افقتدته في غياب الحضن الدافئ ، تدرك أن لها أبا لكنها محرومة من حنانه وحبه وعطفه ، تسلل الخوف لقلب الصغيرة ، تجدها دوما لصيقة بأمه لا تفارقها لحظة واحدة ، تخاف إن فارقتها أو ابتعدت عنها أن تفتقدها كما افتقدت أباها من قبل عندما ايتعدت عنه ، وتبلغ المعاناة أقصى مداها عند أعياد الميلاد أو الأعياد والمناسبات التي تكون فيها الفرحة ناقصة في غياب الأب وهكذا بالنسبة للأب في غياب جو العائلة ، فلا طعم للأعياد في غياب الأهل..
قاومت عبير كل المنغصات وتسلحت بالصبر ، لكن قوتها بدأت تخور وبدأت تحس أن مقاومتها للواقع الأليم فوق طاقتها ، حتى وإن اجتازت يوما هذه البوابة السوداء التي حالت دون سفرها وأحالت حياتها لجحيم وتجاوزت المحنة ، هل ممكن أن تندمل جروحها النفسية ؟ حتما ستترك التجربة ظلال قاتمة ترافقها طول العمر ، قد تعكر صفو حياتها ، فالجروح النفسية لها وقت لتلتئم ، وإن فكرت في زيارة أهلها مرة ثانية حتما ستتكرر المعاناة وبهذا تحرم العائلات من لمة الأحباب !! مالم يكن ثمة حل ناجع يوقف هذا الظلم ويضع حد لمعاناة أهالي غزة مع المعبر ، ومع ذلك لم تفقد عبير الامل وطلت تحلم باللقاء ووجود العائلة حولها يشد من أزرها ..
وحتما ستكره الصغيرة واقعا طالما رفع شعارات رنانة من قبيل حسن الجوار والأخوة والعروبة والعمق العربي وذوي القربى وو...تبخرت على أرض الواقع ولم يعد لها أثر ، ستكره حنين آذانا لم تصغي لآهات وأنين أمها الخافت ، فهي من كانت قريبة منها وتسمعه وتشعر بآلامها ، لأن الآذان أحيانا لا تلقي بالا للأوجاع الصامتة ولا تكترث للمآسي الكامنة أوتصم أذنيها عن سماعها ، لأنها لا تصغي إلا للأصوات المرتفعة ، والأنين الخافت لا يسكنه إلا سجدة في جوف الليل ولا يخففه إلا الأنس بذكر الله ، هو وحده من يبدد عتمة الظلم ويسند الظهر ويقوي الضعف ، فالراحة النفسية لا تتحقق إلا بين يدي المولى عز وجل عندما تبوح له بهمومك ، عندها تجد السلوى والسند وتسأله العون فيمدك بالقوة فتغدو أشد صلابة في مقاومة الصعاب وتجاوز المحن ، راحة بال وطمأنينة لن تجدها إلا في رحاب رحمته الواسعة وحتما سيمن الله عز وجل على المعذبين في الأرض بالفرج القريب ..
انتهت معاناة عبير وتنفستِ الصعداء وتمكنت أخيرا من السفر وغمرتها الفرحة هي وصغيرتها ، إلا أن قصة أخواتها لم تنتهي بعد ، فهناك المئات من مثيلاتها يعشن نفس ظروفها ولكل واحدة منهن قصة موجعة وفصول الحكاية لازالت مستمرة ، لم يكتب لهن السفر بعد ، والأعين ترنو للبوابة علها تفتح عن قريب ، وفي انتظار أن يسمعن بشرى قريبة تلم شملهن وتسعد قلوبهن ، بإذن الله .