ولد الفلسطيني المبعد عن وطنه في الشتات بعيدا عن موطنه فلسطين ، لم يرى قريته الوادعة رأي العين إلا أن حبها استوطن وجدانه ، فتح عينيه على أوجاع وطنه المسلوب وهو يئن تحت وطأة الإحتلال ، من خلال قصص أبيه ومن قبل جده ، تعرف عن محنة وطنه ، وعن قريته التي هُجرت عائلته منها قسرا ، وكيف احتلها الصهاينة بعد أن عاتوا فيها خرابا ودمارا وقتلا وترويعا للأمنين ، وكيف أحالت عصابات الصهاينة وطنه الجميل جنته على الأرض إلى جحيم لا يطاق بعد أن نشر الرعب في ربوعه ..
على جدران البيت علق الفلسطيني صورة كبيرة لخارطة فلسطين ، من النهر إلى البحر ، على ربوعها تتراءى له القرى الفلسطينية التي هُجر منها أصحابها ، عمد الإحتلال إلى تغيير الأسماء ، لطمس معالم جريمته ، إلا أن الأرض تنبض بحب أصحابها الحقيقيون ، من تعلق قلبهم بها وتفانوا في حبها وجادوا بالأرواح فداءََ لثراها الطيب ، من تنتظر عودتهم على أحر من الجمر ، الفلسطيني تشرب حب وطنه منذ نعومة اظفاره ، وذاب حنينا وشوقا لأحتضانه ، وهشم مقولة : الكبار يموتون والصغار ينسون ، حياتهم في الشتات لم تنسيهم أن لهم وطنا محتلا وحقا مسلوبا ومقدسات يُدنس الإحتلال طهرها ، أسماء مدنهم وقراهم سموا بها فلذات أكبادهم حتى تظل حاضرة في الأذهان ..
وكيف ينسونه وفصول النكبة لازالت مستمرة في تفاصيل يومياتهم في الغربة ، في دول اللجوء أو دول الإيواء ، ظل الفلسطيني وفيا لوطنه ، وحتى من يعيش نوعا من الأستقرار في بلدان غربية ، لم ينسى وطنه ، بعد المسافات لم تزده إلا اصرارا على العودة واستماتة في المطالبة بحقه ، هناك في الغربة يُعرف بالقضية العادلة ، ويحشد لها الدعم ويكشف جرائم الإحتلال ، ويميط اللثام عن وجهه البغيض ، مما زاد من أعداد المدافعين عن القضية ، مهما سعى الإعلام المضلل لقلب الحقائق وحجب المعاناة وتزييف الواقع والتماهي مع الرواية الصهيونية ، ومساواة الضحية بالجلاد ، إلا أن صاحب الحق أبدع في إيصال الحقيقة وتفنيد ادعاءات الإحتلال ، واستثمر أدوات العصر في الدفاع عن حقه ، وبذلك بدا نور الحقيقة بالتجلي ، مما زاد من التضييق على الأحتلال وارتفاع وتيرة محاصرته ، من خلال تفعيل سلاح المقاطعة ..
تكررت هجرة الفلسطيني مع تكرار نكبته ، بعد المآسي التي ألمت بدول اللجوء ، وجراء هذه الحروب الطاحنة وهربا من جحيم الحرب ، لن يبقى له إلا أن يشق عباب البحر في رحلة محفوفة بالمخاطر وفرارا من شبح الموت الذي يطارده ، وبحثا عن ملاذ آمن ، ومع كل ذكرى النكبة يجدد الفلسطيني العهد والوفاء لوطنه ، إلا أن هذا العالم يختلف عن سابقيه في ظل ما يُحاك للقضية من مكر وما يضمره المحتل من شر ، فالفلسطيني يحيي هذه الذكرى الأليمة ، بمسيرى العودة الكبرى ، رسالة قوية للمتخاذلين وللمتقاعسين وللمتواطئين على حقه ، ولمن يسعى لوأد القضية وتصفيتها ، لاقدر الله ، يقول للعالم أجمع أنه شعب حي ويرنو للعودة ..
ينصب الخيام على مقربة من وطنه ، يحيي ثراته ، يملي العين بجمال طبيعة موطنه ، يبث أشواقه الحارة لقراه ، يقول للمحتل : الكبار لم يفرطوا والصغار لم ينسوا ، يزرع شتائل الزيتون لحيي نبض الأرض ، هنا باقون ما بقي الزعتر والزيتون ، تصدح الحناجر بالاهازيج الوطنة معلنة ساعة العودة ، ترفع الأعلام الفلسطينية ، تُدون أسماء المدن والقرى ، تعود قضية اللاجئ للواجهة ، حتما سيصغي العالم لصوت لاجئ أعياه البعد عن وطنه وأرقه الحنين لقراه ، يطالب بحق كفلته كل القوانين والأعراف الدولية ، يشارك الفلسطيني في هذه المسيرة أينما كان ، إن لم يستطيع بلوغ أقرب نقطة تفصله عن موطنه ، يشارك بفاعيات في مكان تواجده ، تواكب الحدث الجليل .
مسيرة العودة الكبرى تقول للعالم أن هناك شعب صلب من ينل الاحتلال من عزيمته ولم تفت في عضده المحن ولا الشدائد ، ظل متشبت بأرضه وقاوم الإحتلال وأفشل خططه في انتزاعه من أٍرضه أو كي وعيه ، إن لم يسكن فلسطين ، ففلسطين ملأت روحه وتربعت على عرش قلبه ولها سيعود ، مسيرة تفند روايات الإحتلال عن أرض بلا شعب ، هاهو الشعب الذي هجره الإحتلال قسرا يريد استرداد حقه ، أصلا لم ينسى فلسطين ليتذكرها اليوم ، فهي دوما في ضميره وفي وجدانه وترافقه في ترحاله ، تزين جدران بيته وقد أفسح لها مكانا واسعا في غربته ، شبّ على حبها وتعلق بها ، فلسطين للفلسطيني ، كالروح للجسد ، فكيف يستغني عن روحه ، وهو بلا روح جسد هامد ..
يأتي يوم الأم لينكأ جراح الثكالى والأيتام والمحرومين من حنان الأم والمكلومين في شتى بقاع الأرض ، يلفهم الحزن وهم يرون أقرانهم يهرعون مع آبائهم للمراكز التجارية لإختيار أجمل هدية لأمهاتهم ، هدية محببة لقلبها ، تسعدها وتدخل السرور لقلبها وتغمرها فرحة ، لا تكمن قيمة الهدية في ثمنه الباهض بل في رمزيتها ولأي قلب محب ستُهدى ، وتبقى الأم أعظم هدية للأنسان ، هي لا تنتظر البدل لتضحايتها ، فهي تُقْدم على التضحية بلا مقابل ، مناها أن ترى البسمو تعلو محياك ، تتعب لترتاح أنت وتكابد المشاق لتسعد أنت ، تضحي لتفرح أنت ، سعادتها من سعادتك ، تفرح لفرحك وتحزن لحزنك ، لذلك هو يوم قاسي على الأم وعلى الطفل ، إن كان البعد مفروضا عليهما ..
فالمحرومون دفنوا فرحتهم في قلوبهم ، فالأم إما أسيرة أو شهيدة ، فأقسى حرمان من افتقد حنان الأم ، وجعله الإحتلال أو الإستبداد يعاني مرارة الفراق وعناء البعد ، فهي إما شهيدة وقد تركت فراغا قاتلا في حياته بغيابها ، أو أسيرة خلف القضبان ، يجتهد الأحباب من حوله في ملأ الفراغ ، اجتهاد يخفف آلام الفقد لكن لا ينهيه !
قصة الطفل معتصم تعكس معاناة أطفال كُثر ، حرمهم الإحتلال حضن الأم ، وأغتال الفرحة في يومها ، اعتاد المعتصم في يوم الأم أن يقبل أمه ويهدي لها باقة ورد يعبر بها عن حبه العميق لها ، وعن امتنانه لصبرها ورعايتها وعنايتها به ، وتثمينا لتضحياتها ، وشكر الله على أعظم هداياه له ، فهي أعظم هدية من الله له ، تغمره بحنانها وعطفها ، إلا أنها اليوم بعيدة عنه وقد زج بها الإحتلال في غياهب السجون ، وأثقل كاهليه الصغيرتين بأحكامه الجائرة ، ومازاد ألمه أنها في حاجة ماسة للعلاج وكل تأخير يشكل خطرا على حياتها ، والإحتلال يماطل في علاجها وهذا ما يزيد عذاباته وعذاباتها..
في يوم الأم حرمه الإحتلال ابتسامة أمه وحضنها الدافئ وقلبها الطاهر النقي وروحها الصافية ، حتى زيارته لها ضن بها عليه ، فبعد أن يقطع المسافات الطوال رفقة خالته لينعم بزيارة أمه وتقديم هدية لها يصطدم برفض الإحتلال له بالزيارة ، الطريق إلى السجن طويل ومعتب ومرهق وثقيل على نفسية الكبار فكيف بطفل في عمر الزهور أن يتحمل كل هذا العناء ، إلا أن أمل لقاء بأمه يخفف عنه طول المسير ..
يجلس المعتصم بجانب خالته يتحدث مع نفسه متساءلا ، كيف ستكون لحظة اللقاء وكيف سيعبر عن اشتياقه لأمه وهل ستعجبها هديته ، إلا أن الحقد الأمى أوصد الأبواب دون رؤيتها ، ومنعه من زيارتها ، يلوذ للصمت ليخفي خلفه حملا ثقيلا تعكسه قسمات وجهه الحزين ، قلبه الصغير يكاد ينفطر من هول الصدمة ، أمه قريبة منها وقطع مسافات طوال لزيارتها ولا تفرقه عنها إلا امتارا قليلة ، تطلب خالته منه الهدية لتدخلها بدلا عنه ، لكنه يرفض ، هو من يريد أن يقدم الهدية لأمه ، تسمر المعتصم أمام البوابة السوداء كسواد قلوب من يقف أمامها ، تخنق قلبه العبرة ..
اغتالت جدران السجن الصماء الفرحة بملاقاة أمه ، كتم الأشواق بين أضلاعه ، عاد لعالمه الصغير ليغوص فيه وليبث له شكواه ، فقد يعجز لسانه عن التعبير عن أوجاعه ، وقد يجد في عالمه الصغير بعض السلوى ، يخفف عنه مصابه ، في انتظار يوم يجمعه بأمه ، يوم تعمه الفرحة ..فرحة تتلاشى فيها أحزانه ، ويلتم شمله بأمه ، فحتى سويعات الزيارة لا يلتئم لها جرحه ، فقد تؤجج نيران الفقد ..
هو يريد أمه لجواره كما كل أطفال العالم ، تشاركه أفراحه ، تفتقده إن غاب وتقص عليه قصصا رائعة قبل النوم ، تسعده في أحلامه ، تطبع على خده قبلة حنان عند ذهابه للمدرسة وعندما يعود يجدها تنتظره في لهفة وشوق ، تطهو له اكلات محببة لقلبه ، وتصطحبه في زيارات للعائلة وللمتنزهات ، وتكون لجواره في المناسبات ، وإن مرض تتعهده حتى يُشفى ، فالزيارة لا تخفف لوعة الفراق بل تعمقها ، معاناة الأم لا تختلف عن معاناة الطفل ، إلا في طاقة تحملها ، فالأم تداري حزنها عن طفلها حتى لا توجعه والطفل يُعبر عن عما يختلج فؤاده الصغير ببراءة الأطفال المعهودة ، لا يشفى جرحهما إلا باللقاء ، فالإحتلال يُمعن في حربه النفسية ليزيد من وطأة المعاناة ، وإلا يكفي الأسير مرارة أغلال القيد وحرمانه من نعمة الحرية ، ليحرمه احتضان مهجة فؤاده !
قد لا تكون عايشت فصول نكبة فلسطين ، إلا أنك قرأت عنها وشاهدت تداعياتها على المنطقة ، بل على الأمة جمعاء ، وقد تكون سمعت عن قصص تشيب لها الولدان على لسان من نجوا من المجازر الفظيعة ، وهالك ما بلغ مسامعك مما ارتكبته العصابات الصهيونية في فلسطين : من قتل وسلب ودمار وترويع وتهجير قسري وتشريد ونهب وأهوال يعجز اللسان عن سردها وو..
فلسطين والمنطقة بل والأمة كلها لازالت تتجرع مرارة النكبة ، ولازالت فصولها مستمرة ولازال الشعب الفلسطيني يتجرع مرارتها ، إن في دول اللجوء أو دول الإيواء ، بل تكررت نكبته وتجددت فصولها الدامية مع نكبة سورية ..
هاهي اليوم نكبة سوريا ماثلة أمام ناظريك ، تعيد للأذهان نكبة فلسطين بكل تفاصيلها المؤلمة ، شعب تمسك بأرضه واستماة على حقوقه وعانى مرارة الحصار لخمس سنوات ولم يستلم ولم يذعن ولم يرفع الراية البيضاء ، في ظل خذلان القريب والبعيد إلا مانزر، وظل يقاوم الجوع ومرارة الحرمان وعناء فقد الأحبة وشحّ الدعم ..
وعندما يئس النظام وعجز في تركيعه وفشل سلاح الحصار الخانق ، انهالت عليه كل الحمم ، استعمل النظام بحق المحاصرين كل الأسلحة المحرمة والفتاكة ، حتى غدا باطن الأرض أرحم من ظاهرها ، فيه يلتمسون أمنا وأمانا افتقدوه ، لأيام لا يرون أشعة الشمس ، نسمة هواء نقية غدت عزيزة ، يتجمعون في حيز ضيق ، لكل حكاية يرويها بصمت وتدمع لها الأعين ، فالحال يغني عن الكلام ، يحاولون التخفيف عن بعضهم البعض ما أثقل على الكاهل ، انضاف للجوع القتل والدمار ، حتى الهدنة المزعومة لجلب ما يسد رمقهم لا يتقيد بها النظام وحلفاؤه ويخرقونها ، بل غدت ساعات الهدنة مصيدة لحصد الأرواح ، غدا رغيف الخبز صعب المنال ..
ساعات الهدنة لا تكفي الشعب المكلوم حتى في دفن الضحايا الذي سقطوا جراء القصف المكتف ، أما المساعدات الإنسانية فهي أقرب للدعاية منها لملأ بطون الجوعى الذين لم يستسلموا للحصار إلا أن اشتداد القصف حال دون بلوغ ما يسد رمقهم ، استهدف القصف حتى الشاحنات التي تقل المساعدات ، حتى لا تصل للمكلومين ولا يستفيدوا منها ، وبذلك تعود ادراجها !! فالشعب يريد ما يرفع به الظلم عنه ويوقف القصف ، حتى يؤمن المساعدات الإنسانية وإلا ليس لها معنى ، إن جاءت واستهدفت وعادت ولم يستفيد منها أحد ، المساعدات ما هي إلا ذر الرماد في العيون ، ورسالة لشعوبهم التي باتت المشاهد المروعة تقض مضجعها وتستغرب من استفحال الظلم في ظل صمت مريب للمجتمع الدولي ، فتات المساعدات الإنسانية لا وزن له في ظل استشراس الظلم والقوة الغير المتكافئة ، وإلا فالشعب قاوم الحصار هو يريد ما يصد به العدوان ..
وفي ظل اختلال ميزان القوة ، تجد شعبا يقاوم ظلما مدججا بكل أصناف الأسلحة ، علاوة على دعم حلفائه ومشاركتهم له في بطشه ومن يغض الطرف عن جرائمه هو أيضا مشارك في الإجرام بصمته المريب ، وبذلك يُدفع الشعب للتهجير القسري ، وتتكرر أمام ناظريك مشاهد نكبة فلسطين في أقسى صورها ، شعب يلفه الحزن ويحس بمرارة القهر ، يودع أرضه وقراه وبيته وقد خط عبارة راجعين على الجدران ..
عزل إلا من إرادة لا تلين وصبر وثبات ، تساورهم الهواجس ويقلقل راحتهم التهجير ، تغص قلوبهم بالذكريات الموجعة عن وطنهم الجميل الذي اجبروا على مغادرته ، يؤرقهم مرارة الفراق ، وكأن روحهم انتزعت من أجسادهم ، هل سيُظلم هذا الشعب المكلوم والمظلوم كما ظُلم من قبل الشعب الفلسطيني ويأتي من يخترع الروايات الكاذبة عن شعب باع أرضه وتخلى عنها ، وهل سيكون ثمة سذج يصدقون هذه الإفتراءات وهذه الروايات الزائفة ؟
إلا أن الشعب السوري لن ينسى أرضه ، كما لم ينساها الفلسطيني من قبل وظل متشبتا بها ، ودافع عنها وحملها معه في قلبه أينما حلّ أو ارتحل واجتهد في حشد لها الدعم وعرف بها في المحافل وظل ينافح عنها ولازال ، يفديها بروحه ولم يبخل عنها بالغالي و النفيس ، استوطنت وجدانه وشغلت تفكيره وملأت كل وقته ، وحمل همها ووطن لها نفسه وشحن لها طاقاته ..
فكيف ينساها ؟ وحلمه في العودة كل يوم يكبر معه ، لإحتضان موطنه وتنسم عليله وتقبيل ثراه الطيب وتحريره من الغاصب، فما ضاع حق وراءه مطالب ..