اعتقد الإحتلال ومن يدور في فلكه أن أكثر من عقد من الزمن على الحصار الجائر على غزة ، أنه انهكها وصرفها عن التفكير والإهتمام بقضايا الوطن وهمومه وحق العودة ونصرة مقدساته ، وصون كرامة الوطن والدفاع عن حياضه ، أعتقد أن الحصار قهره ونال منه وأنساه بحثه عن لقمة العيش ويوميات الحصار المرير قضاياه الكبرى وأضعفت إرادته ، إلا أن مسيرة العودة الكبرى وزخمها كانت المفاجآة التي شلت تفكير الإحتلال ، وجد نفسه أمام شعب قوي الشكيمة لم تفت في عضده سنيّ الحصار بل غدا عالي الهمة ، قوي العزيمة لم ينال منه الحصار ، ولازالت إرادته فولاذية ..
ما ميز مسيرة العودة وحدة الصف ، ومشاركة كل الأطياف فيها ، وكل الفئات الصغير قبل الكبير ، الوهم الذي عشعش لعقود في ذهن الإحتلال ، من قبيل مقولة أن الكبار يموتون والصغار ينسون ! دحضتها مسيرة العودة وأبطلتها ، فرأى بأم عينيه كيف يتصدر الصغار المشهد ، حب الوطن يسري في أوصالهم ، يعبر عن عشقه لوطنه بكلمات قوية جداا ، هم أطفال في أعمارهم ، غير أنهم كبار في عشقهم لوطنهم وحنينهم لمدنهم وقراهم ، يشتاق تحرير وطنه واحتضانه وتنسم هواءه العليل ، تهفو قلوبهم لرؤية وطن هُجر منه قسرا ، ترعرع فيه جده وورثته لجيل بعد جيل وحمل أمانته وسكن حبه وجدانه ..
أشبال فلسطين هم أسود الميدان ، يتحدثون بشجاعة وبسالة وجسارة ، لا يخيفهم عدو مدجج بالسلاح ، لأنهم أصحاب حق لا يستكينوا في طلبه ، متمسك بحقه ، يدافع عنه بإستماتة ، يريد العودة لوطنه ، مهما تكن التضحيات ، هم جيل النصر والتحرير ، بإذن الله ، كلماتهم مؤثرة وتجسدت أكثر في حديث الطفل محمد بسام عياش ، الذي ذاع صيته وانتشرت صورته ، بإبتكاره طريقة يتفادى بها الغاز الذي يطلقه المحتل على العزل ، حتما كلماته سيكون لها صدى ، وستعكف عقلية الإحتلال الماكرة في التحليل ، ويتساءل كيف لجيل ثالث أو رابع يتحدث بهده الحماسة عن وطن لم يره ، ومع ذلك يحبه ويدافع عنه، وفيّ له و لن يفرط فيه ، من ربى هذا الجيل الذي ينبض قلبه حبا لوطنه ، رأى وطنه في الخرائط والصور فقط ، ومع ذلك تجذر حبه في وجدانه ..
في ظل حصار جائر ، سعى من خلال الإحتلال ومن يدور في فلكه ، أن يزيد القضية تقزيما ، أن يشغل المواطن بهمومه اليومية ، لينسى همه الأكبر : تحرير الأرض والمقدسات والإنسان حتى يعيش في موطنه بعزة وكرامه ، فشل الإحتلال في كي الوعي أو تحوير البوصلة ، وظلت نظرة الفلسطيني لمحتل مغتصب قائمة ، فاجأته الحشود والأعين التي ترنو للوطن ، جيل العودة يسير على درب الفداء والتضحية ، درب سطر ملاحمه الكبار ، فجاد هو أيضا بأغلى ما منحه إياه ربه : روحه التي بين جنبيه ، شوقا لرؤية موطنه وأملا ملأ روحه للعودة لقراه ..
الإحتلال منذ اليوم الأول للمسيرة استهدف المتظاهرين السلمييين ، امعانا منه لتخويف المشاركين وثنيهم عن مرادهم ، وحتى يتسلل لروحهم اليأس والإحباك وخاصة أن حصيلة الشهداء ارتفعت ، وحتى يتراجعوا عن تحقيق أهدافهم التي سطروها من خلال مسيرة العودة ، إلا الشعب امتاز برباطة الجأش وفوت على الإحلال مراميه ، بل زاد ارتقاء الشهداء من زخمها وجعل من بين أهدافها الوفاء لدماء الشهداء ونهجهم ودربهم الذي ساروا عليهم ورووا بدمائهم الزكية شجرة العطاء ، ووعد منهم بعدم خذلان دماءهم بالصمود والإصرار على مواصلة المسير وتحقيق حلمهم في العودة ..
لطالما حاول الإحتلال تلميع وجهه القبيح ، إلا أن جرائمه بحق المتظارين العزل كشفت وجهه القميئ ، ورصدت الكاميرات كيف استهدف عزل لا يشكلوا أي مصدر تهديد للإحتلال ، عزل إلا من إرادتهم في تحقيق حلمهم بالعودة ، حتى جبهته الداخلية لم تسلم من بطشه فقد سعى لتكميم أفواهمم ، عندما استهجنوا استعمال القوة في مواجهة عزل ، واهتزت صورته في الداخل والخراج وتجلت الحقائق ، فهذا الإحتلال ليس كما يزعم وكما يروج للعالم أنه يدافع عن نفسه!! فالعالم شاهد بأم عينيه كيف يسقط شهداء سلميون ، استهدفهم الإحتلال بالقوة الغاشمة ليثنيهم عن التظاهر السلمي والذي تكفله لهم القوانين الدولية ..
التقطت الكاميرات صور تشد المشاهد وتبهره بعظمتها ومعانيها ، إلا أن الصورة المتميزة ، تلك التي تزرع في النفوس معاني الفخر والإعتزاز ، مشهد رائع تجسد فيه حماية الأرض والعرض في أبهى صورها ، صورة لأربعة شباب يحمون فتاة بأرواحهم حتى لا تمتد لها يد الغدر الصهيونية ، فمن يصون ويحمي العرض لن يخذل الوطن ، وسيلبي نداءه ، وسيحميه ويفديه بروحه ، كما حمى عرضه ودافع عنه ، فمن كانت له غيرة على عرضه ، حتما ستكون له غيرة على وطنه ، ولن يتوانى في الدفاع عنه ، ولن يفرط فيه أو يسلمه أو يتخلى عنه ولو في أحلك الظروف ، فهو من عرض نفسه للخطر ليحمي عرضه من بطش الصهاينة ، صورة مشرفة تفتخر بها كل مسلمة وتتباهى بها..
حتى الصحفيون لم يسلموا من الإستهداف ، فالإحتلال أدرك قيمة الصورة في تجلي الحقائق التي طلما عمل على قلبها ، ليساوي الضحية بالجلاد ، الصورة الحية تكشف وجه الإحتلال البغيض ، ومن يستهدف الصحافة من تنقل الأخبار وتكشف جرائم الإحتلال هو يسعى لحجب الحقيقة وطمس معالمها ، فالصورة المعبرة تفند روايات الإحتلال وتبرز بجلاء مظلومية الشعب الفلسطيني الأعزل في مواجهة غطرسة احتلال ..
وتبقى الصورة أكبر تحدي يقض مضجع الإحتلال ، فيسعى لوأدها بإستهداف من ينقلها للعالم ، هاهو الشعب الذي هُجر عن موطنه ينظم قوافل العودة بعد سبعة عقود من التشريد ، يحدوهم الأمل في تقبيل ثرى الوطن ومناهم أن يعودوا إليه محررين ، بإذن الله ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق