اختطفوا الأم من بين فلذات أكبادها بكل صلف وجور وروعوا الآمنين في كل أرجاء البيت ليزرعوا فيه الخوف ، لا يستندون لقانون إلا لقانون الغاب ، وحرموا طفلتها من حضن أمها وحنانها وعطفها ومن دفء العائلة وقالوا لها في المدرسة اكتبي عن حب الوطن !!
تناسوا أن حب الوطن هو جريرة أمها ، في ظل استبداد صادر ارادتها وعصف بصوتها ، فعن أي وطن ستكتب عنه ؟! ذاك الذي كمم الافواه ، وقد غدا فيه التعبير عن الرأي جريمة يحاسب عليها وينزل بحق صاحبها أقسى العقوبات وغدا فيه الدفاع عن المظلومين مستهجن ومتابع صاحبه ، أم ذاك الذي تُعتقل فيه الحرائر ويُنكل بهن في غياهب السجون وتداس فيه الكرامة في أقبية التحقيق وتُهدر فيه الآدمية ، وتشتت في شمل العوائل وهُضمت فيه الحقوق وسرق الإستبداد البسمة من شفاه البراءة ..
وطن لم تجد فيه حريتك ، كل كلمة فيه مرصودة ، والإنفاس فيه محسوبة ، وطن تحول بأفعال الشنيعة للإستبداد لسجن كبير كئيب ، الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود ، وطن صودرت فيه إرادتك وخيم عليه الخوف وغاب فيه العدل وتفشى فيه الظلم وطفا فيه القهر وطن يتربص فيه شبح الموت بالشباب ليفتك بهم فيضيع مستقبل الوطن ، ويجع بمحاكمات صورية واعترافات تُنتزع تحت التعذيب واعمار لشباب في عمر الزهور تُهدر خلف القضبان ، احرار خلف الأسوار تفانوا في حب وطنهم ، وعبروا عن حبهم للوطن برفضهم للإذعان لأملاءات الإستبداد وناهضوه ولم يستكينوا لإرادته ، وجادوا بروحهم حبا في وطنهم ، وطن مثقل بالجراح ومثخت بالأوجاع والهموم والآهات ، وطن شرفاؤه خلف الأسوار تلهتم سنيّ عمره الزنازن الموحشة وشعب هدّه الفقر والعوز والحاجة ، وطن بات في ذيل القافلة على كل الأصعدة..
أم هل تكتب عن وطن ثار الشعب فيه على الظلم ، الذي عانى من وطأته لعقود وفساد استشرى أوعز البلد فيه للتخلف والأمية والفقروالتقهقر ، كان كل أمله أن يرى وطنا يسود فيه العدل وينعم في أفيائه بالحرية والكرامة والعدالة ، ويسعد بطاقاته وثرواته ومقدراته ، فكاد له الإستبداد بمكر، فكان مصيره السحل والقتل والحرق والإعدامات بدم بارد في الميادين والساحات والنفي والإعتقال ، وهل تكتب عن وطن مزق الإستبداد نسيجه وفرق فيه الشمل ودق أسفين الفرقة في جسده ، أم هل تطلق لخيالها العنان فتكتب عن وطن رسمت ملامحه في مخيلتها ، وطن تنشده لتسعد في كنفه ، وطن يحتضن عطاء شعبه ويعلي قدره ويستثمر طاقاته ليشيد بها صرحه ، ويبنى بها مجده ويولي اهتماما لعطائه وانجازاته وينمي مواهبه ويستفيد من ابداعاته فيتميز به ، وطن يسوده الأمن والأماه في ارجائه وطن يحقق نهضته ويقود الأمة نحو الريادة .
وطن تطهر من رجس الفساد والمفسدين ، وعادت له عافيته وطن عاد لمجده ومكانته وريادته ، إلا أن الإستبداد أفشل جهده واجهض حلمه ووأد أمله ونسف ثورته وحول أحلامه لكوابيس تؤرقه ، أم هل تكتب عن عقول هاجرت وطنا لم يهيئ لها التربية الخصبة لتتميز وتطور من ابداعاتها ولم تجد من يقدر مواهبها ، في المقابل وجد غربا يفتح له الأبواب على مصراعيها ليستفيد منه ويوظف عطاءه خدمة لمصالحه ، وبعد هجرة العقول هاجرت الأجساد الذي انهكها الفقر والجوع والعوز ، أو غادرته خوفا من تلفيق التهم واستصدار الأحكام الجائرة ، فأذرع الأنقلاب جاهزة لكل حيف وجور بحق كل المنهاضيه له ، أو مر بتجربة مريرة في سجون الإنقلاب ، فتركت في نفسه ندوبا لن تندمل ، فترك وطنا لم يجد فيه من ينصفه وفر من استبداد جار عليه..
قد يجد بعض السلوى في الغربة ، وإلا فكيف لمن أحب وطنه أن يهاجر منه إلا مكرها ، بحثا عن ملاذ يعبر فيه بحرية عن رأيه ، أوبحثا عن مجال فسيح يكشف فيه جرائم الإنقلاب بلا خوف أو وجل ويوصل صوت المكلومين للعالم ، ومن أحب الوطن يغادره بالجسد وتبقى الروح مكبلة فيه تئن لفراقه وتتوق لعودته ، من أحب وطنه يشق عليه فراقه ، حتى في الغربة يتطلع لوطنه ويرنو لفك أغلاله ، ويبحث له عن الدواء الناجع لأورامه حتى يتعافى منها ليعود إليه ويسعد في كنفه ، رحلة المنفى لا تعني نسيان الوطن ، فالمحب للوطن ، يحمل همه حتى في منفاه وتشغله أوجاع وطنه ..
هم يريدونها أن تكتب عن من يتدشق بحبه للوطن وهو يشرح فيه ويمزق أوصاله وقد باعه مقابل الحفاظ على امتيازاته وتأمين مصالحه ومصالح من يحمي كرسيه ، ويفرط في ثراه الغالي ويعصف بمصالحه العليا ، ويجعله لقمة سائغة لعدو يتربص به ، همه مصالحه لا غير ، ينظر للوطن على أنه كعكة مستعد للتفريط في سيادته حتى يجثم على كرسيه ويطيل أمده ، لأن من يحب الوطن يحميه ويذود عنه ويقويه ويبعد عنه الشر ومكر المترصبن به ويُفوت عنه مآرب وخطط أعداءه الحقيقيون ويصونه ، ويكرم شعبه ويعلي مقداره ويحافظ عليه ويثمن تضحيات المخلصين والشرفاء فيه ويكون شعبه هو رصيده ويسعى لتقدمه وازدهاره وليس من يقامر به ويساوم عليه ، ثم يدعي بهتانا وزورا محبته !!..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق