قال تعالى : فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )
سورة البقرة..
لو سبرنا أغوار هذه الآية الكريمة وأبحرنا في عمقها لبلغنا دررها المكنون وما تحمل بين طياتها من حكم ومعاني جليلة وما تزخر به من دلالات ، بعد أن خرج طالوت بالجنود لمحاربة الأعداء أخبرجنده أن الله مبتليهم بنهر فمن شرب منه فقد عصى أوامر الله ومن لم يطعمه فقد أطاع الله ونجا ، إلا من اغترف غرفة بيده على قلتها روت عطشه لأنه امتثل لأوامر الله خلاف غيرهم مهما شربوا من الماء بقي احساسهم بالعطش كما هو، النهر كان امتحانا لهم على صبرهم فهم سيلاقوا عدوا شرسا وقد يتعرضون لما هو أصعب وانكى وأمر وسيكابدون المشاق ، لذلك كان الإختبار حتى يكونوا على أهبة للاستعداد لأي خطب يصادفونه ، وكانت حكمة الله عز وجل تقتضي أن تتمايز الصفوف ، ليتميز المؤمن المخلص الصادق من غيره..
بعد هذا الإختبار استقلوا أنفسهم أمام قوة وعتاد عدوهم ، لأن الكثير منهم لم يمتثل للأوامر وشربوا من النهر ، لكن الموقنين بنصر الله ذكروهم بوعد الله الصادق وكيف ينصر الله الفئة المؤمنة حتى وإن كانت قليلة إن تمسكت بالصبر وأيقنت بالنصر، وبذلك ثبت أهل الإيمان وكان النصر حليفهم ، فكيف ترجو النصر والصفوف لم تغربل بعد ولم تتمايز، فيها العميل والمنافق والخائن والمتخاذل ووو...
عندما تخلص النية وتصفو الأنفس ، تجاهد في سبيل الله ولا تبتغي غير وجه الله تعالى واعلاء راية الحق خفاقة ونصرة للحق والذود عنه ، وتتخلص من كل ما أعاقها وعطل نصرها وتمحص الأنفس وتنقح الصفوف من كل الشوائب وكل ما علق بها من الآفات والأدران وحب الدنيا وو.. وعندما تغدو صافية رقراقة ، ترجو أحدى الحسنيين : نصر أو شهادة ، نصرا يبني مجد الأمة ويعلي صرحها ، أو شهادة ترفع منزلته يوم القيامة ،عندها يمن الله عليها بالنصر..
فالقوم مقبلون على الجهاد وهو يتطلب الصبر عند الملاقاة ، الصبر على المحن والشدائد ، فإن لم يتدربوا وهم قادرون على أن يمنعوا أنفسهم فكيف سيصبرون وقت الصعاب والأهوال واشتداد المعارك وحمي وطيسها وكيف سيواجهونها، قد يتقهقروا أو يتراجعوأ أو توهن عزائمهم أو يخذلوا قائدهم ، لذلك كان التأهيل مسبقا حتى يكونوا على قدر المسؤولية ويستطيعوا تجاوز الصعاب وكل ما يعتري طريقهم ..
لذلك كانت الإبتلاءات والإختبارات حتى يصطفي الله عز وجل للنجاح والتمكين ويبلغ القمة من استحق الفوز عن جدارة ونال المنزلة العظيمة ، من أخلص النية ومن رخص للحق كل غالِِ ونفيس ، وحتى يبلغ مقام التمكين من اجتاز الإختبارات بنفس رضية وطاهرة ..عندها ستقف على من سيكون لصفك حتى النهاية ومن سيتخلى عنك أو يخذلك في منتصف الطريق أو من يتيه في سراديب تبعده عن جادة الصواب..
السيرة النوية تزخر صفحاتها المجيدة بالتضحيات والبذل والعطاء والفداء والملاحم ، وكان للنبي عليه الصلاة والسلام لإحتسابه أوتي الحظ الأوفر من الصبر على إيذاء قريش عندما صدح بالدعوة ، وكان القدوة لهم في تحمل العناء والثبات وعندما أثقلت كاهلهم المحن واشتد البأس وعانوا الأمرين ، وقفوا بين يديه يرجون النصرة والعون من الله ، سرد عليهم صبر من كان قبلهم وكيف آذتهم أقوامهم وصبروا وثبتوا على درب الحق ولم يتزعزعوا ولم تثنيهم المحن عن مواصل المشوار حتى أظهر الله الحق وزهق الباطل وبشرهم بالنصر فلا يستعجلوا ، قال تعالى :
حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين )
وقال أيضا : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } سورة البقرة..
وأول غزة همّ بها النبي عليه الصلاة والسلام كانت لاعتراض قافلة قريش ، إلا أن الله عز وجل أعدهم لما هو أعلى قدرا ، ونجحوا في الإختبار وصمدوا وماوهنوا وساندهم الله عز وجل بجند من الملائكة وقوى شوكتهم ، لذلك كانت الإختبارات حتى حين يحل النصر والتمكين تكون النفوس قد تطهرت وأخلصت النية ومؤهلة لنيل النصر ومتمسكة به ولا تفرط فيه ولو في أحلك الظروف ، فقد جاء بعد بذل الجهد وبعد التضحيات ، قصص القرآن جاءت لتشد الأزر وتسند الظهر فهي البلسم للجراح ، تبث التفاؤل في النفوس وتزرع الأمل فيها ..بأن النصر قادم لا محالة ،بإذن الله ، وكم من محن تحمل في طياتها منح كثيرة ..
سُئل الإمام الشافعي رضى الله عنه أيهما خير للمؤمن أن يمكن أو يبتلى !
فقال لا يُمكّن المؤمن حتى يُبتلى ؟
الإبتلاءات تصقل معادن النفوس ، فتشحن الهمم وتقوي الإرادة وتعلي العزيمة وتميز الخبيث من الطيب ، وتعلم أن ما تكابده من محن وتصبر لها أجر ولها جوائز ، ولا يتسلل القنوط لروحك ولا ينتابك اليأس والإحباط ، فأنت تسير على ردب الإنبياء والصالحين والأتقياء ، وتعلم أن طريق الحق ليس مفروشا بالورود بل دونه تضحيات جسام ، والعاقبة دوما للمتقين ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق