لم تصدق هناء نفسها وقد تحقق حلمها الذي طالما انتظرته طويلا، وهي تحتضن رضيعها مهند، بعد عدة محاولات للحمل عبر النطف المهربة والتي لم يحالفها الحظ، وأخيرا نجحت المحاولة وها هي تحمل وليدها بين ذراعيها، وابتسامته تملأ قلبها بهجة وسرورا وحبورا، وتجلس لجوارها ابنتها ذات الأربعة عشر ربيعا، عمرها يعادل غياب الوالد، فقد تركها في المهد حين اعتقله الاحتلال، تحدت هناء كل المخاطر التي صادفتها في رحلتها، منذ أن راودتها فكرة أن تنجب طفلا عبر تهريب النطف، طريقة ابتكرها الاسرى تحديا للاحتلال وعجز هذا الأخير في إيقافها رغم كل اجراءاته التعسفية والعقابية إلى أن وضعت هناء مولودها ..
وما إن أبصر مهند النور وغمرتها السعادة بمقدمه، تلاشت كل عذاباتها، وزالت كل أوجاعها وكل ما لاقته من آلام طوال هذه الرحلة العصيبة ..
من قبل كانت تعيش وحدة قاتلة في غياب الزوج وغياب من يؤنس وحشتها ويكون لها السلوى ويملأ حياتها بهجة، ورغم كل محاولات الاحتلال للحيلولة دون تهريب النطف، إلا أن اصرار الاسير وتحديه يفوت على الاحتلال مراميه، وتتحقق الفرحة الكبرى عندما يعانق زوجها شمس الحرية، لذلك تبقى الفرحة ناقصة في ظل غياب الزوج وكم كان يرنو لهذه اللحظة الفريدة، هذه اللحظة بالذات تحتاج الزوجة لشريك حياتها حتى يشاركها فرحتها، ويسعدا بقدوم ثمرة فؤادهما، ويريان أثرها وقد أبصر النور ..
بجانب هناء صورة زوجها، حتى يفتح مهند عينيه على طيف أبيه، وإن كان الجسد مغيبا، فالروح ترفل بأجنحتها حوله وتسكن آلامها، وإن كان يفصل بينهما أسوار وحواجز وأسلاك وسحنة سجان وصلف احتلال وهوان أمة تخلت عن نصرة مقدساتها كما يجب وتقاعست عن دعمها كما المطلوب، وبذلك بقي الفلسطيني بمفرده يقارع الإحتلال بصموده وصبره، ويمضي زهرة شبابه خلف القضبان، ويذبل جسده في زنازين القهر، قصة هناء تمثل معاناة حقيقية يحياها الأسرى وزوجاتهم خاصة ذوو الأحكام العالية ..
بالإحكام الجائرة على الفلسطيني بجريرة حبه لوطنه والدفاع عن ثراه الغالي، يسعى الإحتلال للقتل البطيء ، بل وقتل الفرحة في نفوس الأسرى حتى يتسلل لروحهم اليأس والإحباط والحرمان من أن يروا فلذات أكبادهم، إلا أن الفلسطيني بإبداعه يصنع الحياة، فيبرز الفجر من بين العتمة، وينتزعون حقوقهم من بين أنياب الاحتلال، ويتحدون الصعاب ويصنعون المستحيل، بإرادتهم القوية وعزيمتهم التي لا تلين ..
يُحرم الفلسطيني من لحظة ينتظرها بشغف كل أب على أحر من الجمر، حتى يحضن ابنه ويتعهده حتى يسمع كلمة تطرب لها مسامعه ويخفق لها قلبه وتسعد روحه: كلمة "بابا" "بابا"، الاحتلال يسعى دوما لتعكير صفو الاسير وتعميق أوجاعه وتكريس آلامه بإبعاده عن أحبته وعن ذويه، وفي هذه اللحظات المفعمة بالمشاعر الجياشة يقوم الجد بدور الأب، يسد فراغا أحدثه غياب الوالد قسرا، فيؤذن في أذن الصبي ويقيم الصلاة في أذنه الاخرى ويستقبل المهنئين ويضفي جوا من الفرحة والسعادة على كل العائلة ..
سفراء الحرية هم بلسم الجراح للاسرى وزوجاتهم ولذويهم، هم الفرحة التي تتسلل لقلب الاسير من خلف القضبان فتخفف عنه آلامه، هم شعاع النور الذي يبدد عتمة السجون، هم من يعزز صمود الأسير ويخفف عنه العناء ويسند ظهره، سفراء الحرية يزرعون الامل في النفوس ويرسمون البسمة على الشفاه ..
مع مقدمهم يكون للحياة معنى، فهم جزء من الغوالي، بمجيئهم ينبض البيت بالحياة، هم امتداد لآبائهم، هم أمل المستقبل المنشود، يخففون حرارة البعد ولوعة الشوق ويكسرون الجمود ويزيحون الوجوم الذي خيم على البيت ، بمقدمهم تعم الفرحة وتدب الحياة في كل الأرجاء، فعلى صخرة صمود الأسرى يتحطم صلف الإحتلال ويتبخر جبروته ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق