هكذا طهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس
ملخص الباب الثالث:
المرحلة الأولى لحركة التجديد والإصلاح ..
في ظل هذا الهوان والترهل والضعف والفساد المستشري وألإنحرافات ، كانت الحاجة ماسة للتغيير لمجابهة التحديات ومواجهة الأخطار المحدقة وتبديد العتمة وظلالها القاتمة ، لإن الإستسلام لهكذا واقع ينذر بالإنهيار وبالكوارث والقابلية للإجهاز على جسد الأمة ، فالحل في أن تتخلص الأمة من كل ما اعترى طريقها وبدد قوتها وتزيح عن طريقها كل المتاريس وكل ما من شأنه أن يعيق نهوضها وعودته لمكانتها ، حتى تعود أمة اسلامية واحدة ويكون الولاء للحق وليس للعصبية وو..
أول ما أشتغل عليه دعاة الإصلاح تشخيص المرض لإمكانية علاجه ، فالذي كان يحول دون قيام قيادة قوية تأخذ بيد الأمة لمرفأ الأمان ، ظهور قيادات ضعيفة متعددة مترهلة مقيدة بأغلال العصبية وحب الهيمنة ، وما كان يحول دون عودة الأمة الإسلامية الموحدة والولاء لها ، عودة ما أذابه الإسلام من عصبيات تبث سموم الفرقة ، ونعرات ومذاهب منحرفة حادت عن جادة الحق ، وماكان يمنع من التضحية الحرص على المكاسب الدنيوية والمناصب العليا والجاه والنفوذ وو..وأي إصلاح كان يصطدم بأفكار مضادة تقيده ولا تجعله ينفك منها لينطلق إلى رحاب فسيحة من التجديد والإصلاح ، لتحقيق مصالح الأمة العليا بعد تقزيمها وتفتيت قوتها ..
ادرك المخلصون أن هذا التهاوي لا محالة يجر للهاوية وللهلاك ، لذلك ظهرت محاولات للإصلاح إلا أنها كانت محدودة الأهداف ، وما فتئت أن حادت عن جادة الحق ، وإزاء هذا الوضع القاتم انقسم المخلصون لقسمين ، قسم نهج العزلة السلبية وانتظار القضاء الإلاهي وقسم نهج العزلة الإجابية ، انسحب من الساحة وانشغب بخاصة نفسه للمراجعة وتجديد ما بها من أفكار ومناهج ، تم العودة ليشق طريقه نحو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد رحلة شاقة من البحث عن دواء لأمراض الأمة الفتاكة ..
وكان من بين هؤلاء الأمام أبو حامد الغزالي الذي أسس منهاجه في الإصلاح من الأصول الإسلامية ، أول خطوة اتبعها الإمام الإنشغال بخاصة نفسه حتى يراجع ماكان يعج به واقعه مما ذكر مسبقا وما كان يسبع الحياة برمتها وعلى كل الأصعدة وفي كل الميادين ، من اضطرابات وما ترتب عنها من آثار مدمرة ، حتى يقف على جادة الحق ، بعد رحلة دامت عشر سنوات ينقب فيها على الدواء الناجع لأمراض الأمة ، تفرغ أخيرا لعلاج ما غزا واقعه وما انعكس سلبا على كل الأصعدة وانذر بالخطر ، كان هدفه الهام بعد أن أفاض في آفات الساحة العلمية والتربوية أن يخرج جيل جديد من العلماء والمربين العاملين ..
بزوال أصل المرض ستتعافي الأمة من اورامها ، فالهزائم لم تقع إلا عندما ترهل جسد الأمة ، بالبحث عن أسباب الترهل وإيجاد الدواء ستزول كل المضاعفات وستتعافى الأمة ، بدأ الإمام مشوار رحلته الإصلاحية بالإصلاح الفكري والنفسي قبل الإنطلاق للإصلاح السياسي ، كان هدفه عاليا على قدر همته ، فقد بحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت لهذا الهوان ، وكان في مقدمتها الأسباب التي جعلت الأمة تقعد عن واجبها في حمل رسالة الإسلام حتى تبلغها لكل الأصقاع ، فهذا هو أصل المرض فلو عادت لواجبها لغدت أمة قوية تبسط رداء العدل وتنقذ البشرية من التيه وتطهر الأرض من دنس الظلم والجور والفساد وو..، فأمراض الداخل هي من تنهك الجسد وتجعله عرضة للأفات التي تفتك به وتفقد منعته ، فكيف ستواجه الأمة الأخطار المحدقة بها وهي منخورة من الداخل ، فبهذا غدت الأمة لقمة سائغة بين يدي عدوها ..
إن ألأساس في وجود الأمة الإسلامية هو أن تحمل رسالة الإسلام وتبلغ أمانته ، نكوصها وقعودها عن واجبها ، جعل العالم يجع بالفساد ويغدو بؤرة للظلم والجور واصبح المسلمون ضحية لهذا القعود ، والخروج من هذا الواقع المزري هو البحث عن أسباب القعود ، معرفة أسباب المرض تفضي للعلاج ، بدل التلاوم وتبادل التهم ونذب التداعيات ركز الإمام على الأسباب التي أدت لهكذا نتيجة كارثية ، فهجوم الصليبيين والمغول على الأمة نتيجة سبقتها أسباب هيئت لها الأوضاع ، والنتيجة ما هي إلا انعكاس لواقع مزري مرير تغوص في أوحاله الأمة ، الضعف والترهل مدعاة لتغول الأعداء ، فالأمة عندما استكانت وضعفت غدت عندها قابلية للنكسات والهزائم ، زوال المرض حتما سيؤدي لزوال الهزائم ، والوقوف على عوامل المرض والضعف مدعاة للشفاء منه ..
وأول ما بدأ به رحلة الإصلاح كما ذكرنا سابقا هم فئة العلماء ، فقد أفرد لهم حيزا كبيرا ، فصل فيه آفات لحقت نهجهم ، عدّ هولاء هم أصل العلل ، وشبه العلماء بالأطباء ، فالطبيب مهمته علاج المريض ، وإن فٌقد الطبيب مات المريض ، فهم ورثة الأنبياء ، من علاتهم أنهم اهتموا بالقضايا الشكلية والفرعية والتي لا علاقة لها بحاجات العصر وتركوا القضايا الهامة ، كما استطرد الإمام في أحوالهم ومآلاتهم وقرع مسامعهم بتفريطهم في واجبهم ورسالتهم ، وعندما حادوا عن رسالتهم تسممت حياة المجتمعات وأدت للإنهيار ، ومن بين آفاتهم التي ذكرها أيضا كيف أنهم تنافسوا لكن ليس في الخير بل في طلب الجاه والسلطة والمباهاة والتزلف للسلاطين ، فحلت بهم كل الآفات وتخرتهم أمراض القلوب ، من عجب ورياء وسمعة وحب الثناء ووو..واطنب في اظهار ترديهم وتهاويهم ، وركز على احياء رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأفصح عن مراحله وبين الحكمة من كل مرحلة من مراحله..و
أفاض الأمام في تحديد صفات الجيل الذي يبتغيه من العلماء والمربين العاملين والمخلصين ، صفات تؤهلهم لحمل الرسالة من جديد وانقاذ الأمة من الهلاك ، علماء تتوحد أفكارهم بدل أن تتنابذ وتتكامل جهودهم بدل أن تتصارع ، وتخلص نياتهم وغاياتهم لله عز وجل ، لأن فساد الرعية بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء ، فالعلماء التي اتسموا بالإخلاص والتجرد وصفاء العقيدة والفهم الصحيح انعكس صلاحهم على الرعية وعلى من يسوسهم فأصلحتهم وتنظمت الحياة ، وبعدها تصدى بحنكة ودراية ومعرفة وعلم للتيارات المنحرفة ، بعد ان اطلع على كل ما سبغ واقعه من آثار سلبية ، وفند خطأها وأستأصل فسادها من الجذور ، بعد أن كشف عاهاتها وعرى خدعها ، حتى انحسر فكرها الهدام وبار سوقها ..