ضمته لصدرها برفق وطبعت على خده قبلة حنان، قد لا يستوعب عقله الصغير ما يدور حوله، إلا أن تصرفه ليلتها يوحي بالكثير، تصرف وكأنه أكبر من سنه، لم يملأ الجو صراخا، كعادة الأطفال في سنه، عندما تهم الأم بتركه والمغادرة ولو لفترة قصيرة، لا يطيق فراقها ويرتبط بها، لم يمسك بتلابيبها حتى تبقى لجواره أو يرافقها هو في مشوارها حتى لا تتركه، عادة الاطفال لا يشعرون بالأمن والأمان إلا في أحضان امهاتهم، بل ودعها بهدوء وعانقته هي بكل حنان كلهما يقين بأن الغيبة لن تطول، بإذن الله ..
لا تستغرب من هذا المشهد المهيب، فهي من أرضعته العزة والأنفة، وقد ألف أن يرى أمه في ميادين الرباط، شامخة تحمل همّ وطنها ولم يثنِها وجعه أن تهتم بقضايا أمتها ولم تنسِها همومها هموم أمتها، اعتاد أن يرى أمه دوما عزيزة كريمة شامخة أبية .. شبل ترعرع في عرين لا يقبل الضيم ويرفض الذل والهوان ويصر على المطالبة بحقوقه، مشهد جد مؤثر فوت على الاحتلال مآربه، حرمت الصهاينة من أن ينتشي بنصر متوهم، أم تودع ابنها وكأن قلبها ينتزع من مكانه، فمهجة فؤادها ستفارقه، ومع كم الوجع إلا أنها لم تترك للاحتلال الوقت ليشهد لحظة انكسار ..
كل العائلة ساندتها، فكانت لها نعم العون، مساندة الأسير تخفف عنه معاناته وتشد من أزره وتقويه، فالصبر والثبات والتآلف والتماسك بين افراد العائلة ومتانة الروابط وتثمين التضحيات وصلابتهم وعدم انكسارهم أمام المحن والشدائد، كلها اسلحة يشهرها الاسير في وجه سجانه ليهزم بها جبروته ..
غدا الدفاع عن وطن مسلوب في عرف الإحتلال جريرة وهو من يدعي أنه "واحة الديمقراطية" في وسط يعج بالديكتاتوريات، إذ به يضيق بقلم حر يأبى نسيان حقه ويذود عنه باستماتة، كلمة حرة صادقة تأبى التدجين أو الاستكانة.
وكعادة الصهاينة، لا تهوى إلا الظلام ولا يحلو لها أن تتحرك إلا فيه، يقتحمون البيوت الآمنة ويروعون من فيها ويختطفون البسمة من الشفاه ويتركون في البيت فراغا قاتلا بعد أن ملأته الأم بحنانها وقلبها المفعم بالمحبة والسكينة والود لكل من فيه ..
صغيرها اعتاد أن ينام بين ذراعيها، اليوم يحمل الهاتف لا ليلهو به كبقية الصغار، بل ليملأ نظراته البريئة من صورة أمه التي افتقدها، يقبلها ويسكن إليها ولا يطيق فراق صورتها ..
جريرة أمه قلمها الجريء وصوتها القوي المجلجل، قلم لا يعرف المهادنة ولا التملق، يناهض الاحتلال واعوانه بصلابة وقوة، كل الضغوط التي مورست بحقها لتثنيها عن الصدح بالحق باءت بالفشل، عجزوا عن كسر إرادتها بكل اساليبهم الخبيثة، باتت كلماتها القوية تزعج الصهاينة واذنابهم وتقض مضجعهم، ومع ذلك صمدت على دربها حتى في اصعب الظروف، فهي فارسة الكلمة الصادقة والرصينة ..
فما كان من الاحتلال إلا أن منع صور عائلتها الصغيرة، فقد ترفع معنوياتها وتعزز صمودها وتقوي شكيمتها، صور تعكس ثبات وصمود وتفوق ونجاح فلذات كبدها، تحدوا غياب الأم قسرا وما يتركه هذا الغياب من ألم ووجع وتجلدوا بالصبر ومع أن الألم في غيابها عن مشاركة اللحظات الجميلة مع اسرتها هو ما يوجع أكثر، إلا أنه غباء الاحتلال المركب، فأي شيء يفرح الأسير ويدخل السرور لقلبه يسعى لمنعه عنه، ويبقى أجمل ما يفرح قلب الأم أن ترى البسمة تعلو محيا صغارها، وقد تفوقوا في دراستهم وزاد تماسكهم وصمودهم، فهذا الذي يمدها بالصبر والثبات ويخفف آلامها ..
صور ترى فيها صغيرها وقد أحاطه من حوله بالعناية وغمروه بحبهم، هذا يخفف من لوعتها وشوقها لصغيرها، ومع كل الرعاية سيظل صغيرها ينتظر ضمة لصدرها من جديد لتغدق عليه من حنانها وتطفئ لوعة شوقها له.
قصة الكاتبة المتميزة لمى خاطر وما تضمنته من ألم وأمل تعكس قصص عشرات الاسيرات خلف القضبان، ممن ينتظرن بلهفة وشوق لمة العائلة وتنسم عبير الحرية ..
يسعى الاحتلال أن يجمع على الأسير سوء المعاملة وهضم حقوقه وثقل القيد والبعد عن الأهل والأحبة وعتمة السجن، حتى يضيق صدره وينوء حمله، إلا أن الأسرى خاضوا معركة الكرامة بامعائهم الخاوية وانتزعوا حقوقهم من بين انياب السجان، فالأصل حريتهم وعودتهم لدفء العائلة، إلا أن لهم حقوقا مطلوبٌ أن ينعموا بها حتى يحين موعد حريتهم ولم شملهم بأحبتهم، وكما كانت وفاء الأحرار الاولى والتي تنسم فيها الاسرى والاسيرات عبير الحرية، بإذن الله ستتكرر الفرحة، فالمقاومة لا تألو جهدا في تحريرهم وتولي ملفهم كل اهتمام وقريبا بإذن الله ستشرق شمس الحرية ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق