من بين الأسباب التي نتجت عنها الهزائم ، ماكان يسود المجتمع من افكار واتجاهات وقيم وعادات وو..مع أن تلك الفترة التي عاصرت الحملات الصليبية عرفت مخلصين ودعاة عاملين إلا أنها ابتليت بداء الإنقسام الذي بدد الجهد وعصف بالتضحيات ..
لم يكن الولاء للفكرة التي ضحى من أجلها السلف وتعرض للإضطهاد والمحن ، بل للمذهب ومدى الإنتماء إليه ، التعصف لها حتى غدت المذاهب كالأحزاب والجماعات في زماننا ، الكل يرى أن الحق معه ودونه باطل ، لم يبحثوا أن أرضية مشتركة وينبذوا خلافاتهم أو العودة للجذور ولما يوحدهم ، كانوا ينظرون لأنفسهم أنهم هم المخولون بالدعوة وغيرهم من المذاهب لا تصلح لها ، وهم من يمتاز بالفهم الصحيح للكتاب والسنة وغيرهم ينقصهم الفهم ، وإن تواجد غيرهم في الساحة كالوا له التهم ونعتوه بكل نقيصة ، بل يحرضون عليه ليبقوا وحدهم في الساحة ، شغلهم حطام الدنيا عن بلوع الحق ودب فيهم داء الفرقة..

يتغنون بأمجاد أسلافهم الصالحين حتى وإن حادوا عن نهجهم القويم ، في المقابل ينتقصون من غيرهم ، يستعلون عن الغير بأمجاد سلفهم الصالح ويرمون غيرهم بكل نقيصة ، والنتيجة صراعات مذهبية كان لها الأثر السلبي على ميادين شتى : الفكر والتربية والإجتماع والسياسة ، وحوصر الفكر في المذهب وغاب التفاعل مع المذاهب المخالفة والإنفتاح عليها ، والنتيجة لهذا العقم الفكري توقف التجديد والإبداع وحل الجدل والصراعات ومهاجمة المخالف حتى بلغ الأمر بالإقتتال لمجرد الإختلاف ، وكان التأثير الأخطر على الجانب الإجتماعي ، إذ يكفي انتماءك للمذهب لتكسب النفوذ والتسلق عبره لتتقلد المناصب العليا أما المخالف فدوما عرضة للإيذاء والإنتقاص ..

بل بلغ الإنقسام للمذهب الواحد طلبا للمنصب وحتى يتصدر الأتباع ويملي سياسته ، أما آثاره السياسية تجلت في تصيد الأخطاء والتناحر والتقرب للسلاطين والقادة والتماس المنفعة من قربهم لهم ، حتى غدا مناهم ليس تحكيم الإسلام بل بلوغ المذهب وانصاره لتقلد المناصب العليا ونيل الحظوة والكيد لغيرهم من المذاهب ، ومن انتقد هذه السياسة المجحفة أو لم يتقيد بهذا التعصب المقيت ، تنهال عليه التهم ، فتحجر الفكر واغلق الباب ولم ينفتح على غيره من المذاهب ليستفيد منها ، والنتيجة تنافر وتناحر وتمزيق للأمة ..

قدسوا رجال المذاهب وغدوا فوق النصيحة أو الإنتقاد ، احتكروا فهمهم للكتاب والسنة وصموا الآذان عن بقية المذاهب وفهمها ، وقاتلوا من يوجه لهم الإنتقاد أو يطالب بالتصحيح وتوجيه البوصلة لوجتها الصحيحة ، مع أن الفهم للكتاب والسنة اجتهاد ولكل فهمه الخاص ، إلا أن الكل يصب في خير الأمة ، لكن هذا التحجر أدى إلى تعطل الإبداع و توقف الإجتهاد وحل الجمود والركون وانعكس سلبا على الساحة ، حتى بلغت الآفة مبلغا خطيرا ، لم يعد الهدف خدمة الإسلام بل العمل على خدمة مصلحة المذهب ..

بلغ هذا الداء حتى للعامة ، فأصبحوا ينتقلون من حزب لآخر ، حسب قدرة المذهب على تحقيق المنافع والأطماع ، لا يهتم بالمذهب بحد ذاته بل بما سيجنيه من منافع وعطايا من الإنتساب إليه ، وغدا المقياس والفيصل ليس مدى قربك للإسلام أو تحكيمه بل مدى قربك للمذهب ، فإن عادوا قاضيا وكالوا له التهم ليس كونه غير عادل بل كونه من مذهب مخالف حتى وإن كان عادلا وهكذا قس عليه في مجالات شتى ، تنافر وتناحر وشرذمة في الوقت التي بدأت تتأجج فيه الحملات الصليبية للإنقضاض على مقدرات الأمة وتفتيتها واغتصاب مقدساتها ..