الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

الخليفة عمر بن عبد العزيز مثال للإمام العادل




من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل ، من تولى أمر المسلمين فحكم بينهم بالعدل ، من استشعر ثقل الأمانة وعمل لها بكل تفان وحزم وعزم ، من لم يبخل على رعيته ، من أنصف المظلوم وأعان الملهوف ، من زهد في كل مباهج الإمارة والخلافة ولم يكثر لها بل كان همه خدمة الرعية ، من كان كتاب الله نوره وسراجه المنير والرفقة الصالحة عونه وخيار القوم جلساءه ، من أصلح ما أفسده غيره ودلل كل طريق وعر ، من أقام العدل في أبهى صوره حتى غدى بعدله منارة يُحتدى بها وقدوة لغيره ، الإمام العادل كالأم الرؤوم برعيته ، تشفق عليهم وتحنو عليهم وتُصلح شأنهم وتُبعد عنهم كل آفة قد تضر بهم ، فلا عذر لإمام تقلد الأمانة وفرط أو ظلم وبغى ..

وكما أن التاريخ يعج بقصص الجبابرة العتاه من ظلموا وتجبروا وكان مآلهم الهلاك ، فلم يبخس للمصلحين وللأئمة العادلين حقهم وزكى صفحاته بعبق سيرتهم الطيبة التي تفوح مسكا وعطرا ، والنموذج الذي بين أيدينا لخير مثال ، يفتح التاريخ صفحات عدل وقسط لإمام عادل ، حياة حافلة بالعطاء رغم أنه لم يحكم سوى ثلاثين شهرا ، استظل الكل تحت عدله ونَعم الكل برِفقه وعدله وانصافه ، قبل أن يكون خليفة للمسلمين ، عرض عليه الخليفة إمارة المدينة ولو كان ممن تلهيهم المناصب أو تغريهم بريقها، لتهللت أسارير وجهه ولأقبل عليها راغبا مادات عُرضت عليه ، لكنه قبلها بشرط ، اشترط أن يحكم بالعدل ، يرفض أن يجعل منه الخليفة تحفة يزين بها حكمه ..

عمر بن عبد العزيز الذي رضع العزة ونهل العلم ، سليل بيت كريم فجده الأكبر هو عمر بن الخطاب الإمام العادل ، وبين شروطه للخليفة ، شروط تعيد القطار لمساره الصحيح وتعيد الحق لإصحابه ، فوافق الخليفة على شروطه ، عمر بن عبد العزيز يستشعر جسامة الأمانة ، والإمارة عنده ليست مغنم بل عدها مغرما فهو مساءل بين يدي الله إن فرط أو ظلم ، هو خادم للرعية..

أستبشر أهل المدينة خيرا وفرحوا بالوافد الجديد ، فصيته بلغهم ومكارم أخلاقه وعزة نفسه لا تخفى على أحد نسل طيب من أصل طيب يجري في عروقه سمت العلم وروح العدل هو غصن كريم من تلك الشجرة الشامخة الضاربة جذورها في أعماق الأرض ، تدرج الأمير في مجالس الحكم وجالس العلماء وكان نعم الأمير، وفي أجواء مشحونة ومضطربة والكل ينتظر لمن سيؤول إليه العهد بعد الخليفة سليمان بن عبد الملك الذي وافته المنية ، وهذا الأخير فاجأ الجميع بتوليه الخلافة والعهد من بعده لعمر بن عبد العزيز ، لما عرف عنه من ورع وأمانه وعدل..

تقبلها وهو كاره ليس لأنه ليس أهلا لها كلا ، لكن خوفا من ثقل المسؤولية وجسامتها ، فقد انصدع قلبه وأثر فيه المشهد فهو لتوه جاء من مجلس عزاء للخليفة ، تذكر الموت فبكى ، وحق له أن يبكى فهو يحس أن الخلافة حمل وعبء ومسؤولية
كانت أول خطبته التي صدح بها تعبر عن مكنون رجل عفيف لم تُؤثر فيه الخلافة بل لم تزده إلا تواضعا ورفقا ، كلماته غير متكلفة تستشعر من خلاله إخلاص النية لله ، أكد على اصلاح السرائر فهو مدعاة لإصلاح العلانية ، حرص أن يبين للناس سبب كل خلاف وخصام ولخّصهما في الدنيا والدرهم ، وغيرها من المعاني الجليلة التي تحملها الخطبة تحت طياتها وتعلن عن عهد جديد يعز الله فيه الإسلام ويعم العدل ويكرم فيه الإنسان وتحفظ كرامته وتصان حقوقه ..

أول ماقام به بعد توليه الخلافة ، عزل الولاة الظلمة من عملوا في زمن الظلم وسكتوا عنه أو صفقوا له ، بل عزل كل من تورط في ظلم الرعية ، فولى مكانهم أصلح الناس ، فأختار الأمناء والشرفاء والمخلصين ، اختار لمجلسه الإستشاري جمع من خيرة القوم علماء ثقاة انتقاهم بعناية فائقة ليكونوا له الدعم ويشدوا من أزره ، فالمستشارين إن لم يكونوا أهل ثقة وأهل علم ومعرفة وحنكة ودراية فسيكونون وبالا على الأمة وبطانة سوء لذلك حرص الخليفة الجديد أن يكون من معه أهل لعونه في حمل ثقل المسؤولية ، ينصحونه ويقيّمونه ويعينونه على العدل والحق ويكونون أهلا للرأي والمشورة ، كان لا يقطع أمرا حتى يستشيرهم ، وكانوا لا يبخلون عليه بالنصائح ، هم العلماء ورثة الأنبياء هم زبدة القوم أحسن بذلك الإختيار ، لم يختارهم عبثا بل بعد روية وخبرة فهو حريص على خدمة الشعب..

فقد ولى في مناصب مهمة أصحاب الكفاءة والبارعين في السياسة ومن لهم خبرة في إدارة الدولة ورغم هذا كان متابع ومراقب لسير الأمور
اختار بعناية دقيقة القضاة وأمناء بيت مال المسلمين وأوصاهم هم أيضا أن يختاروف موظفين ومعاونيهم من الأمناء لقد أحاط نفسه بالأبرار
أول ما بدأ به بيته وأهله فرد كل شيئ لبيت المسلمين فهو القدوة لغيره من الرعية لم يُبقي لفنسه ولأهله إلا ما هو مشروع ، ثم ذويه ورحمه وعائلته كل من أخذ شيئا غير مشروع وما ليس لهم يرد لبيت مال المسلمين ، يحتفظوا فقط بحقهم المشروع وما أخذوه بغير حق في الزمن الغابر يرد ، حرص أن يكون المقربين منه ومن يتواصل معهم أن يكونوا على درجة كبيرة من الأمانة ، يبلغون حوائج الناس ، منذ اللحظة الأولى لم يتوانى ولم ينم ولم يغمض له جفن حتى يؤدي الأمانة على أكمل وجه .

حتى غير المسلمين عاشوا تحت ظل عدله واستشعروا سماحة الإسلام ، التواصي بالحق والعدل والتعامل بالحسنى وبأخلاق الإسلام الرفيعة ، فسح لحرية الفكر فقط بضوابط ، لأن للأسف البعض يعتقد أن حرية التعبير أو حرية الفكر أن تقدح في الصالحين أو تتخطى حريتك لتؤدي خلق الله ، حرية الفكر فيما يخدم مصلحة الوطن ويعلي مكانتها ويغني الساحة لا حرية تبلبل الفكر وتشتته أو تزرع بذور الإلحاد والفرقة والشتات ، فالكون يسير وفق قانون وضوابط إن اختل اختل الكل..

كان متواضعا للكل يسمع النصيحة لا فرق بينه وبين الرعية إلا في ثقل المسؤولية ، كان ما إن ينتهي من أعمال الدولة حتى يطفئ السراج ويفتح سراجه لأن الأول مِلك للرعية والثاني ملكا له ، يكظم الغيظ ويعفو ويصفح ، لا ننسى تجربته المتميزة أكسبته حنكة ودراية بدروب الحكم ، فقد ارتقى في سلم الإمارة حتى أصبح خليفة ، كان قريبا من مجلس الحكم ففتح عينيه على إدارة الدولة وسقل مواهبه بتجارب عدة زادت من رصيده المعرفي بالحكم ، وكانت له الزخم حين تقلد الخلافة ، سكن على مقربة من الشعب حتى يكون قريبا منهم ، كان شديدا في محاسبة نفسه خوفا من التقصير ، لا ينام حتى يرد المظالم حقا كيف ينام من يعي حجم المسؤولية المنوطة به .

في عهده عم العدل أرجاء الخلافة حتى كان الرجل يُخرج الزكاة فلا يجد من يقبلها ، عقمت أرحام الامهات أن تلد فقيرا واحدا ، حتى الطير أكلت من فيئه وخيره ، لأنه نهج سياسة عادلة بعد دراسة مستفيضة مع أصحاب الشأن ، فتح باب الحوار مع المخالفين ، قرب وجهات النظر استمالهم بالحجة والدليل ، اهتم بالعمل والمعرفة ، في عهده اعتنق الكثيرون الإسلام ، قل معارضوه تحسنت أحوال المسلمين ، خف عداء الكثيرين للدولة ، لأنه حاورهم بالحكمة والموعظة الحسنة وأسلوب سلسل وافسح لهم المجال ليبدوا رأيهم في كل ما خالفوه فيه وخاطبهم بما يفهمونه وبذلك كسبهم بدل التناحر معهم وضياع الجهد ، حقا كان مثالا حيّا للإمام العادل ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق